الخطوة الفرنسية جاءت كرد مباشر على ما اعتبرته باريس « استفزازات متكررة » من الجزائر، أبرزها طرد 15 دبلوماسيا فرنسيا، واستدعاء القائم بالأعمال الفرنسي وتوجيه مذكرة احتجاج شديدة اللهجة. هذا التصعيد دفع وزارة الداخلية الفرنسية إلى تبني سياسة « المعاملة بالمثل »، شملت طرد 12 دبلوماسيا جزائريا من فرنسا.
وفي هذا السياق، برز تحوّل لافت في لهجة باريس السياسية، التي باتت أكثر صرامة وأقل ديبلوماسية. فقد وصف وزير الخارجية جان-نويل بارو القرار بأنه « حازم ومتناسق »، مؤكدا على أن فرنسا « لن تتهاون في حماية مصالحها »، بينما شدد وزير الداخلية برونو ريتايو على أن باريس شرعت في تنفيذ سياسة «رد تدريجي» على ما اعتبره «تعنتا جزائريا» في ملفات حساسة، كملف الترحيل والتعاون القنصلي، في مؤشر على تضاؤل هامش المجاملة السياسية مع الجزائر.
الجزائر تلوّح بالمزيد من التصعيد
كما جرت العادة، جاء الرد الجزائري بنبرة تصعيدية حادة، حيث وصفت الخارجية الجزائرية القرار الفرنسي بأنه « عدائي ومنحرف »، واعتبرته انتهاكا صارخا لاتفاق 2013، دون أن تُظهر استعداداً لمراجعة سياق التصعيد القائم.
بيان وزارة الخارجية الجزائرية ركز بشكل أساسي على الشكل دون المضمون، متهما باريس باتخاذ قرارها بشكل أحادي وتسريبه للإعلام بدل التواصل عبر القنوات الدبلوماسية، وكأنّ تلك القنوات لا تزال فاعلة في ظل طرد متبادل للدبلوماسيين وتعطّل الحوار السياسي بين الجانبين.
وفي محاولة لإضفاء بُعد تاريخي على الأزمة، أعادت الجزائر التذكير برفض باريس، منذ عام 1986، منح الإعفاءات المرتبطة بجوازات السفر الدبلوماسية، متناسية أن العلاقات بين الطرفين لم تبلغ يوما مستوى من الاستقرار يسمح ببناء الثقة الضرورية لتفعيل مثل هذه الاستثناءات.
أما التهديد باتخاذ « كافة التدابير القانونية والدبلوماسية »، فقد بدا أقرب إلى رد انفعالي لا يُغيّر من واقع انسداد الأفق، في ظل غياب أي استراتيجية واقعية لتطويق الأزمة أو احتوائها.
وهكذا تحولت السيادة إلى شعار يُرفع عند كل أزمة، بدل أن تُترجم إلى خيارات عقلانية تعزز من موقع الجزائر في معادلة العلاقات الدولية.
نحو قطيعة رمزية
يرى مراقبون أن إلغاء باريس لاتفاقية 2007 ليس إلا بداية لتحول أعمق في نهجها إزاء الجزائر. فصحيفة «لو فيغارو» الفرنسية اعتبرت القرار جزءا من سياسة جديدة تقوم على الصرامة والمعاملة بالمثل، كرد على ما تراه استفزازات جزائرية متكررة.
وتدل المؤشرات، من الطرد المتبادل للدبلوماسيين إلى استدعاء السفراء مرورا بإلغاء امتيازات ثنائية، على أن هوّة الثقة بين الطرفين تتسع، وخطوط الرجعة آخذة في التلاشي. وفي ظل غياب إرادة جزائرية لإعادة فتح قنوات الحوار، تبدو احتمالات استئناف التعاون الثنائي ضئيلة على المدى القريب.
إقرأ أيضا : التصعيد الجزائري - الفرنسي.. قرارات انفعالية تعمّق القطيعة وتضرب الأعراف الدبلوماسية
في المقابل، بدأت فرنسا بالفعل مراجعة شاملة لعلاقاتها مع الجزائر، ما ينذر بتداعيات تتجاوز الأزمة الحالية، وتهدد بإعادة تشكيل خريطة المصالح المشتركة، خاصة في مجالات التعليم، الاقتصاد، والاستثمار، التي طالما شكلت ركائز العلاقة بين البلدين.
قرارات انفعالية
اللافت في هذا التصعيد ليس فقط شدّته، بل الطريقة الانفعالية التي يُدار بها من الجانب الجزائري، الذي يستمر في اتخاذ خطوات دبلوماسية عالية الكلفة دون حساب دقيق لتبعاتها. وهو ما يطرح علامات استفهام حول منطق إدارة الأزمة وأولويات السياسة الخارجية.
فبدلا من تحويل الأزمة إلى فرصة لإعادة ضبط العلاقة مع باريس على أساس الندية، تنزلق الجزائر مجددا نحو منطق رد الفعل، بينما تبدو فرنسا أكثر استعدادا لفرض قواعد جديدة للتعامل، عبر الضغط السياسي والدبلوماسي، بل وحتى الاقتصادي، لإنهاء مرحلة الامتيازات التي كانت تتمتع بها الجزائر.
وفي ظل التصعيد المتواصل بين الجزائر وفرنسا، تبدو مصالح المواطنين الجزائريين أكبر المتضررين، خاصة مع تعقيد إجراءات التأشيرات، وتجميد مشاريع التعاون، وتعثر ملفات حيوية كالهجرة والتعليم. فالصراع الدبلوماسي بات يهدد بتقويض علاقات طالما شكلت رافعة للفرص الاقتصادية والاجتماعية، ليُترك المواطن وحيدا في مواجهة تبعات قرارات انفعالية تعمق معاناته اليومية، خاصة في ظل الأزمات الداخلية الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة.