بضربة مرسوم، تبتكر الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية نوعا اقتصاديا جديدا: «المُستورِد الذاتي ». لا هو بتاجر، ولا برجل أعمال، ولا بمهرّب، بل خليط من الثلاثة، والأرجح أنه أقرب للأخير. ففي جزائر 2025، أصبح التهريب مهنة معترف بها.
انسوا الصناعة، وخطط الإقلاع، والسيادة الاقتصادية، وسلاسل القيمة… مرحبا بـ«تجارة الشنطة»، التي باتت الآن مؤسساتية. فبموجب إعلان الرئيس عبد المجيد تبون في 18 ماي الماضي، والمرسوم التنفيذي الذي وقّعه الوزير الأول نذير العرباوي في 28 يونيو 2025، قنّن النظام الجزائري رسميا بيع المنتجات المُدخَلة بطرق غير رسمية، بل وحتى غير قانونية، من قبل أفراد خلال سفرهم إلى الخارج. ما يُعرف شعبيا منذ عقود بـ«التهريب»، أصبح الآن قطاعا اقتصاديا معترفا به. لقد مات «التراباندو»، وعاش «المستورِد الذاتي»!
هذا المواطن البسيط، المزود بحقيبة رياضية (الكابا كما يسميها الجزائريون)، يمكنه أن يستورد ما يصل إلى 24 ألف يورو من البضائع شهريا، عبر رحلتين بقيمة 12 ألف يورو لكل منهما، ويبيعها بدون سجل تجاري، أو محل، أو شهادة مطابقة، وبدون أن يُوصف بالمهرّب، إذ إنه أصبح يحمل « علامة الدولة ».
لكن العبقرية الجزائرية لا تتوقف هنا. هؤلاء «المُستوردون الصغار» لن يدفعوا سوى 5% من الرسوم الجمركية على بضائعهم، مقارنة بـ60% أحيانا يدفعها المستوردون الرسميون. كما أنهم غير ملزمين بالحصول على ترخيص، أو عقد، أو وديعة مالية، أو حتى أي تكوين. «دبلوم الكيس» أصبح شهادة عالمية.
شروط المشاركة؟ أن تكون بالغا، تقيم في الجزائر، عاطلا عن العمل، تمتلك حسابا بالعملة الصعبة في بنك الجزائر الخارجي (BEA)، والأهم: أن تشتري العملات الصعبة من السوق السوداء لضخها في القنوات الرسمية. نعم، لقد قرأتم جيدا. الدولة الجزائرية تنظّم الآن عملية « غسل العملة » غير الرسمية.
من دون «فيريرو روشيه» لا معنى للكيس
لطالما كانت «تجارة الكابا» في الجزائر رياضة وطنية، واقتصادا موازيا، بل ودبلوماسية غير رسمية. يُحمّل فيها كل شيء: أجبان فاسدة، عصائر ملوّنة، سراويل جينز تركية، أحذية رياضية (أصلية أو مقلدة)، شامبوهات « سحرية »، مستحضرات تجميل، وطبعا، شوكولاتة « فيريرو روشيه » الذهبية التي أصبحت طقسا شعبيا في بلد يعاني من غياب المنتجات الرفيعة. من دون هذه التجارة، لن يستطيع أي صالون تجميل نسائي أن يعمل.
الكيس يعبر الحدود والجمارك وحتى الفصول. إنه التجسيد الفاقع لنظام استبدل فيه الاستيراد الرسمي بـ«الاستيراد العاطفي»، حيث تفوقت الحقائب على الوزارات، وفي غياب التجارة الحرة، اخترع الشعب « مقايضة عالمية » بنسخة محلية... على عجلات. والآن، الدولة التي كان من المفترض أن تحارب هذا النشاط، تضفي عليه طابعا رسميا وتمنحه توقيعها.
في حين يرزح التجار الحقيقيون تحت عبء الضرائب، والقيود الجمركية، والمراقبة الصحية، يتجوّل رواد الاقتصاد الموازي في ساحة مفتوحة. يمكنهم بيع مستحضرات تجميل بلا تتبع، ملابس مقلدة، وهواتف ذكية دون ضمان، وكل ذلك دون اكتراث بسلامة المستهلك، أو الحاجة إلى تبرير أي شيء لأي أحد.
الخيال أصبح واقعا، والسوق السوداء صارت اقتصادا وطنيا، والتدبير الفردي بات عقيدة دولة. حتى مهرّبو المخدرات قد يشعرون بالغيرة من هذه « الجرأة المؤسسية ». وكما تساءل الصحفي والمعارض الجزائري عبدو سمار في فيديو خصصه لهذا الموضوع:"لماذا تُنشئ سلسلة توزيع، أو تُقيم مصنعا، أو تفتح متجرا، بينما آلاف المستوردين الصغار ينافسونك ببضائع غير مصرح بها، وغير خاضعة للضرائب، ولا يمكن تتبعها؟"
الرسالة واضحة للمستثمرين المحليين والدوليين: أنتم مجرد ضحايا في مهزلة تنظيمية. ماركات مثل Zara وKiabi وSamsung يمكنها طي بضائعها ومغادرة الجزائر، فالسوق قد غُمر بالحقائب.
كنز قانوني
في غياب خلق وظائف حقيقية، يبدو أن الرئيس الجزائري وجد « الوصفة السحرية »: شراء السلم الاجتماعي بشعبوية اقتصادية. فبعد فشل منحة البطالة التي وُلدت ميتة، ها هو « الفردوس » التجاري الجديد بلا هيكلة، بلا التزامات، بلا مراقبة. أما الجمارك؟ فبضابطين وكلب مدرّب لن تتمكن من رصد كميات كريمات التبييض المحتوية على الرصاص أو بسكويت LU المنتهي الصلاحية.
وماذا عن تأثير هذا على الدينار؟ بدفع الجزائريين لشراء العملة من السوق السوداء لاستيراد سلعهم، يساهم النظام في تفاقم انهيار سعر الصرف الموازي، ما يزيد من معاناة المواطنين الذين يحتاجون للعملات الصعبة للعلاج أو الدراسة في الخارج. الدينار ينهار. واليوم، يُتداول اليورو بـ265 دينارا – في رقم قياسي جديد.
الإجراء يُراد به أيضا التهرّب من فضيحة أخرى، تتعلق بوعد رئاسي جديد لم يُنفَّذ: زيادة المنحة السياحية التي « يستفيد » منها الجزائريون. ففي ديسمبر 2024، أعلن عبد المجيد تبون تخصيص 750 يورو سنويا للبالغين، و300 يورو للقُصّر. مقارنة بـما بين 10.000 و30.000 يورو سنويا في المغرب، بدا هذا الإعلان بمثابة تحوّل مهم بعد 28 سنة من الإذلال الجماعي الذي اضطر فيه الجزائريون إلى الالتفاف على منحة سنوية هزيلة لا تتجاوز 100 دولار.
وقد صدّق الجزائريون الأمر – ولو للحظة. بعضهم بدأ حتى يُفكّر في الزواج وتكوين أسرة. ولمَ لا؟ فحسب إجراء تبون، كان من المنتظر أن يتوافد الملايين من الجزائريين نحو المعابر الحدودية مع تونس، فقط لعبورها وختم جوازاتهم والعودة في اليوم نفسه أو اليوم التالي. سيشترون 750 يورو بـ114.253 دينار جزائري، ويبيعونها في « ساحة الجزائر » – المركز الرمزي للصرف الموازي – بـ198.750 دينار. ربح يومي صافٍ قدره 84.487 دينار.
هكذا يعمل النظام المالي والنقدي في الجزائر: يوجد نظام مزدوج للصرف، أحدهما وهمي تُحدده « بنك الجزائر »، والآخر حقيقي يُحدده السوق السوداء. فوفق السعر الرسمي، اليورو يُعادل 150 دينارا، أما في السوق السوداء، فيصل إلى 265 دينارا. وفي بلد يعيش بنظامي صرف متوازيين، كانت إعادة تقييم المنحة السياحية ستُتيح لكل مواطن تحقيق ربح مضمون: شراء بالثمن الرسمي، وبيع بسعر السوق السوداء. كنز قانوني بامتياز.
ولأن الحد الأدنى للأجور في الجزائر هو 20.000 دينار، فإن هذا التلاعب بفضل إجراء تبون كان سيُمكّن أي شخص من جني ما يُعادل أكثر من أربعة أشهر من الحد الأدنى للأجر، فقط عبر المرور من مكتب صرف إلى آخر. ومن كان سيتحمل كلفة تحويل العملات الصعبة إلى دينار جزائري في السوق السوداء؟ خزينة الدولة طبعا.
لكن ومنذ إعلان تبون، لم يحدث شيء. فُهِمت الرسالة، وتم ركن الإجراء في أرشيف البيروقراطية. لأنه، لو تم تنفيذ الوعد، لكان قد فتح ثغرة كبيرة لا يمكن السيطرة عليها. حيلة تبون، التي أُطلقت دون حسابات مسبقة، اصطدمت بجدار الارتجال. والنتيجة؟ الشبابيك التي تم تخصيصها في الموانئ والمطارات لتوزيع المنحة السياحية بقيت خالية تماما.
سيلي لاند (Silly-Land)
وبفضل الاكتشاف الجديد لتبون، نجحت الجزائر في إنجاز غير مسبوق: تحويل الغش إلى سياسة، والاقتصاد غير الرسمي إلى ركيزة استراتيجية، والتدبير الفردي إلى نموذج اقتصادي. الإجراء الجديد أدى إلى ولادة شكل من الرأسمالية الرخيصة، دون رأسمال، دون هيكلة، ودون أفق. وفي النهاية، لا بأس من إنهاء الغرق في مشهد درامي « جميل ».
مع تقنين التهريب، بلغ العبث ذروته، وبدأت كل مكونات الدولة المحترمة تختفي الواحدة تلو الأخرى. وفي خضم ذلك، يواصل النظام وأذرعه الإعلامية التهليل والتصفيق. فقد بدأت وكالة الأنباء الرسمية (APS) بإغراق منصاتها ببرقيات تمجيد للرئيس « عمي تبون »، بمناسبة اقتراب 5 يوليوز، عيد الاستقلال. إحدى هذه البرقيات تبرز بقوة ليس فقط بسبب كمّ الأوصاف التمجيدية المرتبطة بالرئيس الذي يقود سفينة الجزائر الغارقة منذ ست سنوات، بل أيضا بسبب الفراغ العميق الذي يطبع حصيلته الفعلية. تقول البرقية:« منذ توليه منصب الرئاسة في ديسمبر 2019، شرع الرئيس عبد المجيد تبون في إحداث تحوّل عميق في الجزائر، يلبي تطلعات شعب طالما سعى إلى التغيير."
مرة أخرى، تتحدث الجزائر الرسمية عن « العظمة »، بينما البلد غارق في مأزق لا مخرج له.
الخلاصة؟ يلخّصها سفيان جيلالي، رئيس حزب « جيل جديد »، الذي كان يُعد من أبرز « الداعمين النقديين » للنظام. يبدو أنه حصل على ضوء أخضر من أحد أجنحة الجيش الغاضبة من انحرافات رئيس « فقد صوابه »، فأصبح من القلائل الذين يواجهون الرئاسة علنا. يقول:"بعد انتخابات الكابة، واقتصاد الكابة، سيأتي دور مؤسسات الكابة، وسينهار الدينار قريبا. نحن اليوم نعيش في Silly-Land."
و« Silly-Land »، كما يعلّق موقع «لو ماتان دالجيري»: «هو ذلك البلد الذي يتنافس فيه العبث مع التناقض، حيث لم تعد القرارات تُقرأ من منظور المصلحة العامة، بل بوصفها علامات على سلطة مفصولة عن الواقع، تائهة بلا بوصلة.»
وفي بلد تم فيه تكميم حرية التعبير، يكشف هذا الخطاب النقدي سواء من السياسي أو من الصحيفة عن غضب عارم داخل أجنحة قوية من النظام الجزائري، ترى اليوم في تبون خطرا، ليس فقط على البلاد، بل على النظام نفسه الذي ارتكب يوما ما الخطيئة الكبرى: وضع مجنون رسمي على رأس الدولة.